مقالات وكتاب

الجنوب في حسابات المملكة السعودية

“مَنْ كانت المملكة حليفته، فإنه لا يحتاج إلى أعداء”. تلك عبارة تحتمل تأويلات شتى، غير أن استخدامها الساخر يُراد به غالبًا الإشارة إلى أن المملكة، بوصفها “حليفًا”، قد تتحول في الوقت ذاته إلى خصم مثالي! فهي تمارس دورًا مزدوجًا إن رأت فيه ما يخدم مصالحها. لكنها، في كل مرة، تسدد خسارتها بالمال وتنصرف.

سلوك المملكة غير المباشر في مناطق الجنوب ـ من خلال إنشاء جيوش ومجالس موازية ومراكز سلفية ودور الصحوة ومناطق نفوذ ـ سوف يُسهم في إضعاف البنية الاجتماعية وتأسيس بيئة صراعات لاحقة، وقبل كل شيء تشتيت قدرات الحليف المحلي المهم. وهذا السلوك المزدوج لا يحتاج إلى أدوات تحليل سياسي لتفكيك أهداف الشقيقة، وإنما إلى “عالِم ذرة”، أو ـ بدقة أكبر ـ إلى متخصص في “مبدأ التراكب” في ميكانيكا الكم.

عندما تدخلت قائدة التحالف في اليمن كانت على دراية بأن الحراك الجنوبي قد بلغ ذروته وأن أبناء الجنوب سوف يقاتلون ليس لاستعادة صنعاء وإنما لإسقاط نفوذها جنوبًا بشكل نهائي. حينها فتحت المملكة نوافذ إعلامية للقضية الجنوبية، حتى أن الإعلامي البارز جمال خاشقجي (رحمه الله) غرّد عام 2015 “قائلًا: حصلتُ على عَلَم الجنوب عام 94 واحتفظت به، وقد حان الوقت لإخراجه”.

وفي ذات المسار ظهر إعلاميون سعوديون على خط التأييد لقضية الجنوب حتى ظن أبناء الجنوب أن الشقيقة سوف تنجز موقفًا (ناقصًا) كانت قد بدأته خلال حرب 94. لكن الأمر لم يلبث طويلًا حتى تم طيّ الصفحة تلك. وتحولت تكتيكات المملكة إلى اتجاهات معاكسة تمامًا، بلغت ذروتها في الحبكة التلفزيونية الشهيرة لقناة الحدث في إسناد إعلامي حيّ ومباشر لحملة “الإخوان” باتجاه عدن عام 2019، والتي وصفها أحد المثقفين اليمنيين بأنها “مسيرة النور”. دون تعريف أصل “النور” في شعار “خيبر”. لكن هذه دراما أخرى.

كانت تلك علامة فارقة في علاقة المملكة بالجنوب ومنها بدأت المواقف تتضح حتى بعد إعلان قيام مجلس القيادة الرئاسي. ويبدو أن المملكة ترى مصالحها بأن يبقى الجنوب ضمن دولة يمنية واحدة ليعزز “المكون السنّي” في مواجهة “المكون الشيعي”، فهي لا ترى في الشأن اليمني إلا ما يرد عنها تمدد إيران من خلال إيجاد مَصَدّ “سُنّي” استراتيجي، في حين لا تضع حساب للكيانات الوطنية الأخرى إلا ضمن تلك المعايير.

نموذج “أحمد الشرع” (بعد التحديث) أتى ليعزز وهم استراتيجي تتبناه المملكة بين عواصم أخرى، مفاده: أن الإسلام السياسي السنّي فرس الرهان في مواجهة الأذرع الإيرانية، حتى وإن تبنّى تكتيكات مختلفة من دولة إلى أخرى. وهذا الوهم يعكس حجم المعضلة، لأن ذلك يعمل على تحويل ديناميات النزاعات المحركة للتغيير إلى إعادة إنتاج صراعات دينية طويلة الأمد تدفع بالمجتمعات العربية نحو إحياء حروب تاريخية، تتغذى على استنزاف المنطقة.

وبدلًا من تعزيز القوى المدنية لبناء أفق حضاري يتجاوز الهويات الطائفية المغلقة، تمضي دول عربية نحو صناعة أمنية مريبة: تُصدّر إلى الفضاءات المنهكة ما لا تسمح به داخل حدودها. وبهذا، لا يقوم دورها في مواجهة التمدد الإيراني على منطق استراتيجي مغاير في جوهره، بقدر ما يعيد إنتاجه بصيغة معكوسة.

“عاصفة الحزم” بدورها، تحولت بعد فترة قصيرة إلى “عاصفة أمل” ثم ما لبثت أن انزلقت إلى عاصفة يأس في مسار يشبه المنحنيات المركبة في الفيزياء – إن صح التعبير. وقد شكلت زيارة السفير إلى صنعاء لطلب السلام نقطة الانكسار النهائي. وفي المقابل، تم إعداد مسودات خريطة الطريق التي وصفها بعض الإعلام الغربي بأنها سيئة للغاية ولا تخدم استقرار اليمن.

توقّفَ كل شيء في المناطق المحررة عدا نبض الزمن الصعب بانتظار حزمة من (المجاهيل) حيث تلعب السعودية (حامية الحمى) دور المشارك، شأنها شأن عُمان، في إعداد “الطبخات الجاهزة”. وأن نجحت قد تكتب فصولًا ليست أخيرة، لمسيرة معقدة بدأها الرئيس الشرعي في طلب الحماية من دولة لا تستطع حماية أراضيها.

مقالات ذات صلة

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى