مقالات وكتاب

للغاضبين من الحقيقة

لم أتنبه للضجة التي أحدثها منشوري على فيس بوك المعنون بـ”في ذكرى ثورة 14 أكتوبر” والذي كنت قد أعطيته على تطبيق ووتسأب عنوانا فرعيا، “للمتباكين على الاستعمار البريطاني” أقول لم أتنبه لهذه الضجة التي شهدتها بعض مجموعات ووتسأب التي تداولت المنشور، لأنني لا أفتح المجموعات على هذه الخدمة إلا أقل القليل في حين إن لدي على هاتفي أكثر من 150 مجموعة سأكذب على القراء الكرام لو قلت إنني أفتحها أو أقرأ ما فيها.

 

وعندما نبهني بعض الزملاء لهذه الضجة تابعت معظم التعليقات وليس كلها، وجدت أن رجال إعلام ونشطاء برلمانيين وقادة سياسيين من المستوى الرفيع جداً قد شاركوا فيها، ووجدتها تتركز في قضيتين:

 

 

 

  1. القضية الأولى وتتعلق بالطبيعة الوحشية والقمعية لكل نظام احتلالي استعماري حينما قلت :” لم يكن الاستعمار كل الاستعمار ملائكياً أو رحيماً او ودوداً، وما الفرق بين محتل وآخر إلا في درجة التوحش والغطرسة والهمجية فقط ، فلا تترحموا على المحتل الأقل همجيةً ووحشيةً، لأن من جاء بعده كان أكثر همجيةً وتوحشاً ودمويةً، فالاثنان سواء ولا فرق بينهما”.

 

 

 

  1. أما القضية الثانية فتتعلق بحديثي عن ثورة الرابع عشر من أكتوبر حينما قلت ” هذه الثورة العظيمة التي جسدت أرادة كل الشعب الجنوبي بكل تاريخه وجغرافيته من باب المندب وحنيش وزقر إلى نشطون وحبروت وصرفيت وقشن وسقطرى، ووحدت الشعب قبل إعلان الدولة الجنوبية الواحدة الموحدة”.

 

 

 

كل الذين امتعضوا من هاتين القضيتين عبروا عن اتهامهم لي، مباشرة أو غير مباشرة بالتحريض على لانفصال والدعوة لتمزيق الوطن بل أن أحدهم اتهمني بالعمالة للاستعمار البريطاني واستدل على ذلك بوجودي في بريطانيا وحصولي وبعض أفراد أسرتي على الجنسية البريطانية، بالرغم من كل ما كتبته عن وحشية النظام الاستعماري وغطرسته وطبيعته القمعية، وبعضهم قال أو أوعز بأن الحديث عن أرخبيل حنيش وزقر وباب المندب هو تحريض للاستيلاء على أراضي شمالية.

 

 

 

فأولاً: لا أرغب في الحديث عن الاتهامات والشتائم الموجهة لشخصي فقد تعودت أن أضع كل ما يوجه لي من سباب وشتائم واتهامات وراء ظهري ولا أعيرها اهتماماً حتى وهي تصدر عن قيادات عليا في سلطات الشرعيات المتعددة التي حكمت البلد منذ 1994م أو من بعض قيادات أحزابها السياسية، وسأتوقف هنا عند الحقائق التي يغضب البعض من التعرض لها.

 

وثانياً: لا أدري لماذا يمتعض البعض عندما نقول إن الاستعمار البريطاني لم يقدم شيئا للبلد طوال 129 عام، وعندما نقول إن أرياف ما كان يعرف بـ”الجنوب العربي” وهي تمثل أكثر من 90% من مساحة الجنوب كانت معزولة عن العالم ولم تعرف معنى الدواء لمواجهة المرض، أو استخدام المركبات أو أبجديات التعليم البدائي من الرياضيات والفيزياء والكيمياء وسواها، كما لم تعرف اسم الإدارة أو المحكمة أو مركز الشرطة أو ممثل الادعاء العام، حتى صبيحة 30 نوفمبر 1967م، أو عندما نقول إن قمع النظام الاستعماري ووحشيته لم يكونا يختلفان عن قمع ووحشية الأنظمة الديكتاتورية في البلدان المتخلفة ومنها نظام 7/7/ 94م إلا في درجة التوحش والهمجية والدموية.

 

 

 

وثالثاً: علي أن أشير هنا إلى أن الموضوع كان الهدف منه هو الرد على الذين يتباكون على الاستعمار البريطاني متحججين بأنه قام ببعض المشاريع العمرانية وأدخل الماء والكهرباء إلى عدن وعبَّد بعض الطرقات بالإسفلت، وهم يعتبرون هذا خدمةً للبلد وأهلها ولا يعلمون أن كل هذا إنما جاء لخدمة مصالح النظام الاستعماري وتلبية حاجاته، وقد قلت لأحد النواب البريطانيين في أحد اللقاءات الودية، إنه من العار على الاحتلال البريطاني أن يكون عدد المدارس الثانوية التي بنيت في عدن طوال 129 عام (فترة الاستعمار البريطاني للمدينة) هي أربع مدارس منها 3 أهلية وواحدة حكومية فقط، بينما في المدينة التي أسكن فيها في بريطانيا وهي مدينة أصغر حجماً وأقل سكانا من مدينة عدن يوجد عشرات المدارس الثانوية فقط، وأكثر من جامعة ومعهد متخصص ومراكز دراسات، ناهيك عن مئات المدارس الابتدائية ورياض الأطفال.

 

ورابعاً: إن سبب غضب بعض هؤلاء خصوصا من أبناء الشمال الشقيق، هو أننا تحدثنا عن إرادة الشعب الجنوبي من نشطون وقشن إلى باب المندب وحنيش وزقر، ودخلوا في نزاع حدودي هم يعلمون أنهم لا يمتلكون حجة في مناقشة موضوعه، لكن هذه القضايا يحسمها المؤرخون والقانونيون والجغرافيون، ولا أدري لماذا يحشر البعض من الإعلاميين والنواب والقادة السياسيين أنفسهم في كل صغيرة وكبيرة مما يعلمون وما لا يعلمون، وفي هذه الجزئية بالذات لست مخولاً بالحديث عن حدود الجنوب الذي دخل باسم “جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية” في اتحاد طوعي مع شقيقته “الجمهورية العربية اليمنية” فانقلبت الأخيرة على الاتفاق الطوعي واستحوذت على الجنوب بالحرب واستولت على خيراته ومنشآته ومؤسساته وثرواته وأرضه وسمائه وبحاره وشواطئه وقامت بتحويل كل هذا إلى غنيمة حرب تقاسمها المنتصرون بفتوى رسمية من وزير العدل (حينها) أباحت الجنوب وأرضه وثروته كحق للغزاة باعتبار الجنوب دار كفر وأهله كفار يجب معاملتهم كما عومل الكفار في الغزوات والفتوحات بعد الدعوة الإسلامية.

 

لن أجيب على التساؤلات المتصلة بهذه القضية فمن سيجيب عليها هو الوثائق والخرائط التي دخلت بها دولة الجنوب يوم 22 مايو 1990م هذا الاتحاد الفاشل، لكنني أشير إلى أن القضايا القانونية والحقوقية لا تحسم بالتحريض ولا بالتهييج ولا بالادعاءات الزائفة بل بالقرائن والوثائق والمستندات، وهذا ما لا يحتاج إلى أي جدال أو مزايدات من أحد مدعياً كان أم مدعياً عليه.

 

ما استفز بعض هؤلاء هو عبارة أوردتها للمتباكين على الاستعمار البريطاني قلت فيها إنه لا فرق بين أنظمة الاحتلال إلآ في درجة التوحش والهمجية.

 

هذه القضية تمكن مناقشتها بالطول والعرض في جلسة مفتوحة للبرهان أنه لا فرق بين ما جرى لأرض الجنوب يوم 19 يناير 1839 م ويوم 7 يوليو 1994م إلا في شكل التدمير والتجريف والتخريب لأن الغازي البريطاني بعد أن بسط هيمنته على عدن استخدم سياسات الاستدراج والضغط وما يسمى بـ”الترهيب والترغيب” لإدخال القادة والسلاطين في مشاريعه الاستعمارية، ولم يدمر ما كان قائما من المنشآت والمؤسسات كما لا يمكن إنكار ما أحدث من تطويرات وما أدخل من خدمات تماشيا مع العصر وخدمة لمصالحه الاستعمارية، أما سدنة 7/7 فقد أبادوا كل شيء وأعادوا البلاد القهقرى عشرات وربما مئات السنين ولن أخوض في التفاصيل فمن أراد التفاصيل فليذهب إلى تقرير المرحومين العميد عبد القادر هلال والدكتور صالح باصرة عليهما رحمة الله ورضوانه، علما بأن المرحومين لم يتناولا في تقريرهما الأبعاد السياسية والاقتصادية والنفسية والسيسيولوجية لما تعرض له الجنوب من اجتياح وتجريف وتشويه وتزوير شمل كل شيء ابتداءً بالإنسان وأخلاقه وتربيته مروراً بالإرض والمنشآت والمؤسسات وانتهاءً بالتاريخ والثقافة والهوية والبناء المعنوي التربوي والنفسي لأبناء الجنوب.

 

لكنني أترك كل هذا للمؤسسات ومراكز البحوث والدراسات أو منظمات حقوق الإنسان وغيرها من المؤسسات المتخصصة لتقول كلمتها فيه.

 

ومجدداً أقول: لا يوجد استعمارٌ رحيمٌ أو ودودٌ أو ملائكيٌ، وما الفرق بين محتلٍ وآخر إلا في درجة التوحش والغطرسة والهمجية فقط.

 

والترحم على المحتل الاقل همجيةً ووحشيةً، لان من جاء بعده كان أكثر همجيةً وتوحشاً ودمويةً لا يعبر إلا عن سوء تقدير وحماقة وقصر نظر، فالاثنان متساويان في كونهما احتلال غسر شرعي وغير قانوني ويجب رحيله.

 

وأخير:

 

أتمنى أن لا يتصور أحدٌ أن مخرجات مشاورات الرياض قد دفنت القضية الجنوبية أو أن تشكيل مجلس الرئاسة وتكليفه بإدارة الجنوب قد أنهى القضية وشرعن لأساطين 7/7 كل ما ارتكبوه في حق الجنوب والجنوبيين وأعفاهم من المساءلة والمحاسبة .

 

ولا أن يتصور البعض أن هذه المشاورات قد أعفت القوى السياسية الشمالية من تحرير محافظات الشمال واستعادة صنعاء عاصمة الجمهورية العربية اليمنية (السابقة) أو أن المشاورات قد امنتها حق الاكتفاء بجعل الجنوب وطناً بديلا للذين نفاهم الحوثي من ديارهم ومحافظاتهم.

 

ومقولة أننا كلنا يمنيين وكلنا إخوة وحبايب وأهل بيت واحد كانت تصلح إلى ما قبل 7/7/1994م أما بعدها فقد تفككنا إلى ثنائيات لا حصر لها ، أهمها: ثنايات الفرع والأصل، المنتصر والمهزوم، السالب والمسلوب، الناهب والمنهوب، المتبوع والتابع والغاصب والمغصوب، وشعب الجنوب قد استوعب هذه القضية ولم يعد يعاني من الالتباس في فهمها وتعليمها للأجيال الناشئة، وعموما الحديث يطول في هذه الجزئية الصغيرة لكن لا يفوتني أن أتوجه بالتقدير لكل السياسين والمثقفين والإعلاميين الشماليين الذين أقروا بالطبيعة الإجرامية لحرب 1994م على الجنوب وحق أبناء الجنوب في استعادة دولتهم واختيار طريقهم المستقل، وأخص هنا بهذه المناسبة الزميل النائب البرلماني عبد الرحمن العشبي وهو أحد البرلمانيين الذين دخلوا في مناقشة القضية وبرهن على أنه قد تحرر من المفاهيم الصنمية وأنه يتعاطى مع لغة الحقائق على الأرض ولا يكرر غنائيات شعراء الرومانسية التي تهرب من الوقائع لتبني عوالمها الجميلة في الفراغ المتعالي المعزول عن الأرض وأهلها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى