اخبار الضالع

هنا الضالع… فادخلوا النار إن استطعتم

أيامٌ قليلة، وتُتِمُّ الضالع عقدها الأول منذ نفضتْ عنها غبار الاجتياح، وكسرت أغلال الحصار، وأعلنت للريح والعالم والسماء أنها مدينةٌ لا تُستباح، وأنها حين تُجرَح، تنبت بنادق.
أيتها الضالع… يا سيدة النار والتجلّي، لا نأتي إليك اليوم بزهرٍ ولا خطب، بل نأتي حفاةً كما كنا، نحمل وجوهنا القديمة، وقلوبنا التي كانت تعرف أنها حرة، قبل أن تثقلها التنازلات.
كل عامٍ تمرين فيه من الذكرى، توقظين فينا السؤال القديم: هل كنا لحظةً من وهجك، أم كنا مجرد شهودٍ على إعصارٍ لم نفهمه بعد؟
ما من مدينةٍ على هذه الأرض قايضت الجغرافيا بالكرامة كما فعلتْ الضالع، وما من جدارٍ تعلّم النطق مثلما تعلمت حجارتها أن تصرخ في وجه الغزاة.
ففي كل رصيفٍ فيها كان ثمة جندي يفتش عن موته بعينين ثابتتين، لا ليهرب منه، بل ليرتديه كما تُرتدى الراية حين يضيق الوقت عن الكلام وتصبح الأجساد هي الحروف الأخيرة في جملة الوطن.
أيتها المدينة، يا أمّ الشهداء ويا شقيقة الجبال، لم تكوني تحاولين النجاة، بل كنتِ تشتهين الصعود… الصعود الثقيل الذي لا يُهديه التاريخ إلا لأولئك الذين يرمون بأرواحهم في فم الوحش ثم يخرجون من جوفه وهم يضحكون. فيكِ كسرنا ساعة الانتظار، وتعلّمنا أن الصمت خيانة حين تُطلق البنادق نداءها.
يا ضالعَ الغضبِ المستتر تحت عباءةِ الجبال،
يا ابنةَ النار حين تُولد المدنُ من رمادها لا من رحمِ الخريطة،
يا يدَ الجنوب حين ارتفعت في وجه الكهنوت، وقالت: “لا”،
يا سيدةَ الطلقةِ الأولى، وصاحبةَ القرار الذي لم يُنتظر له توقيعٌ من عاصمةٍ غريبة… كيف لم ينفجر فيك البرقُ من فرط ما احتملتِ من صواعق؟!
يا صرخةً في ليلٍ جنوبيٍ طويل، لم يسمعها إلا من كانت قلوبهم ما تزال تنبض بالتمرّد لا بالتكيّف.
يا ضالع، يا حبرَ الحكاية حين يجفُّ التاريخ،
يا صدراً مفتوحاً كقميص شهيد،
يا رئةً تتنفّس البارود وتزهر منه مقاومة،
يا أمّ الذين قالوا: “لن نموت خلف المتارس، بل سنموت ونحن نقتحمُها.”
يا من علّمتِ الجغرافيا أن تتّسع للكرامة،
وعلّمتِ الخوفَ كيف يُهزم حين يُقال: “هنا الضالع، فادخلوا النار إن استطعتم.”
يا مدينةَ الأمهات اللواتي غسلن ثيابَ الشهداء بدموعٍ لم تَسقُط،
يا مدينةَ الآباء الذين حفروا الخنادق بأظافرهم كي لا تموت الحكاية،
يا عروس الجنوب التي لم تُزفّ إلا على وقع المدافع،
ويا صدى الرجولة حين يُسأل عنها التاريخ في زمن العار.
فاحملي يا ضالع، في قلبكِ هذا النداء،
وأنشدي يا روح الجنوب، قصيدة الرفض، قصيدة الرفض التي لا تنتهي،
فليس هناك مكانٌ للضعفاء، ولا موطئ قدم للمستسلمين،
وكل ذكرى هي ولادةٌ جديدة، وكل دمعةٍ تروي قصةً تُروى إلى الأبد.
طوبى لك يا ضالعنا وأنتِ تعبرين عقدكِ الأول، كما عبرتِ الموت ذات فجرٍ دامٍ، وطوبى لكل مدينةٍ تعلمتْ منكِ أن الخلاص لا يُمنح، بل يُنتزع انتزاعاً.

مقالات ذات صلة

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى