عربية ودولية

رسائل محمد بن سلمان السبع

لتأكيد محورية سياسات المملكة الداخلية في كل توجهاتها الخارجية، اختار ولي العهد إطلاق رسائله من جزيرة سندالة الجميلة على البحر الأحمر، وهي واحدة من اثنتين وثلاثين جزيرة يجري تأهيلها في إطار مشروع "نيوم" العملاق.

من إحدى أهم محطات مشروع “الحزام والطريق”، وعلى أنقاض طريق الحرير القديم على الشاطئ الخلاب البحر الأصفر في مدينة يانيويغان في جمهورية الصين الشعبية، شاهدت لقاء الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، مع قناة “فوكس نيوز” الأميركية.

ولا نبالغ هنا بأن هذا اللقاء، كان منتظرا من أطراف إقليمية ودولية عديدة؛ كونه يأتي بعد تسريبات إعلامية متتالية عن فحوى المفاوضات التي تجري بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية منذ عدة أشهر وتقاطعها مع ملفات عديدة، أهمها ما يتردد عن شكل التطبيع السعودي مع إسرائيل، والعلاقات مع الصين وروسيا وإيران، وأزمة اليمن، وتصور المملكة لدورها ومستقبلها وللإصلاحات الداخلية التي عليها المضي بها لاستكمال عملية التحول الاجتماعي والاقتصادي.

كان لقاء صريحا تطرق فيه ولي العهد لأهم الملفات التي تهم الداخل والخارج على حد سواء، لكنه في الوقت نفسه، كان لقاء مدروسا من جهة الرسائل التي أراد ولي العهد إيصالها لشعبه ولدول الجوار وللقوى العظمى الرئيسة.

لعل الرسالة الأولى التي أراد الأمير محمد بن سلمان إرسالها كانت لشعبه، وهي تتألف من ثلاثة عناصر:

الأول، أن المُحرك الرئيس لسياسات المملكة الخارجية هو مصلحتها في تحقيق رؤية المملكة 2030 للتحول الاقتصادي والاجتماعي، والتي تبدأ من التنويع الاقتصادي لضمان استمرارية النمو الاقتصادي والازدهار. وأن تحقيق ذلك مرتبط بشكل عضوي بتصفير المشاكل الإقليمية، وهو ما يتطلب التوصل إلى تسويات للصراعات في الإقليم وعلاقات دولية متوازنة مع الجميع على أرضية المصالح المشتركة والاحترام المتبادل.

والثاني، أن التحول الاقتصادي والاجتماعي في المملكة هو مشروع جدي وحتمي وليس للاستهلاك الإعلامي الداخلي أو الخارجي، بل عملية مستمرة ولازمة لن تنتهي قبل تحويل المملكة إلى دولة قائمة على الاقتصاد المعرفي، تمتلك التقنية الحديثة، وتطمئن لمستقبلها.

والثالث، أن المملكة مُقدمة على تحديث كبير في قوانينها وإصلاح مؤسسات الدولة لتعزيز حكم القانون وبما يتماشى مع روح العصر، وهو ما يمكن استنتاجه من قول الأمير بأنه “يشعر بالحرج” من وجود قوانين لا يرغب فيها.

 

الرسالة الثانية، كانت لإسرائيل وهي أن المملكة منفتحة على عملية السلام معها وأنها تشجع الجهود الأميركية في هذا السياق، وتعتبر أن تحقيق السلام بين المملكة وإسرائيل سيكون بمثابة أهم حدث دولي منذ انتهاء الحرب الباردة.

لكنه كان واضحا أيضا في أن الموضوع الفلسطيني يحتل أهمية خاصة لدى المملكة وأنه يريد أن يرى “اتفاقا تنجزه الولايات المتحدة يعطي الفلسطينيين ما يريدونه ويسهل حياتهم ويجعل المنطقة أكثر هدوءا وأمنا” كشرط مسبق للسلام مع إسرائيل. “هنالك تقدم في هذا المسار” يقول ولي العهد السعودي، “لكن علينا أن ننتظر لنرى نهاية الطريق”.

الرسالة الثالثة لإيران، وهي أن المملكة تنظر باحترام إلى جديتها في تنفيذ الالتزامات التي تعهدت بها بموجب الاتفاق الذي وُقِع معها برعاية الصين، وأنها تريد تطوير العلاقات معها بما يخدم البلدين. لكن المملكة أيضا ومن أجل ضمان أمنها الوطني لن تقبل أن تمتلك إيران قنبلة نووية، وأن حدوث ذلك يعني بالضرورة أن المملكة ستسعى إلى امتلاك سلاح نووي لضمان أمنها وتوازن القوة معها.

الرسالة الرابعة كانت للولايات المتحدة، وتطرقت إلى عدد من القضايا، أهمها:

أن المملكة تريد الحفاظ على العلاقات العسكرية والسياسية القوية والممتدة منذ ثمانية عقود مع الولايات المتحدة. وأن المعاهدة الدفاعية التي تسعى المملكة إليها هي مصلحة أميركية بقدر ما هي مصلحة سعودية، لأن ذلك يعزز الدور الإقليمي للولايات المتحدة في المنطقة، ويساهم في تعزيز صناعاتها العسكرية خصوصا، وأن مشتريات المملكة العربية العسكرية منها أكبر من المشتريات المجتمعة لأهم خمس دول تبتاع السلاح منها.

ولي العهد أيضا كان حريصا على أن يبعث برسالة صريحة وبشكل مباشر بأن رفض أميركا للمعاهدة الدفاعية سيدفع المملكة لشراء أسلحتها من مصادر بديلة، رغم عدم تفضيلها هذا الخيار، لما يترتب عليه من جهد إضافي يتعلق بمفاوضات الشراء والتدريب والصيانة مع المورد البديل، وهو ما قصده على الأغلب بعبارة “صداع لا نحتاجه”.

بالإضافة لذلك، سعى ولي العهد إلى طمأنة الولايات المتحدة بأن دخول المملكة للمجموعة الاقتصادية “بريكس” لا يعني اصطفافا سياسيا مع الصين وروسيا، لأن هذه المجموعة لا مشروع سياسيا لها، وأن المملكة تتشارك مع دول أخرى مثل الهند والبرازيل ودولة جنوب أفريقيا في علاقاتها القوية مع الولايات المتحدة رغم وجود هذه الدول جميعها في مجموعة “بريكس”.

حرص ولي العهد أيضا على تأكيد وقوفه على مسافة واحدة من الحزبين الديمقراطي والجمهوري في الولايات المتحدة، فهو من جهة مدح الرئيس بايدن ووصفه بأنه رجل “حاد الذهن، ولديه تركيز جيد، ويحضّر بشكل جيد لاجتماعاته”، وأن أجندة العمل مع إدارته مليئة بالقضايا ذات الاهتمام المشترك من الأمن والسياسة إلى التكنولوجيا والفضاء والمشاريع الاقتصادية، لكنه من جهة أخرى حرص على أن يخاطب الشعب الأميركي من القناة التلفزيونية المفضلة لكثير من الجمهوريين.

الرسالة الخامسة كانت للصين، بأن المملكة لا تسعى لتقييد وخفض علاقاتها معها، وأن هذه العلاقات ستستمر وستتعزز في المستقبل وأن على الولايات المتحدة تقبل ذلك، فهي نفسها لا تحتمل خسارة الصين كشريك تجاري، وأن انهيار الصين الاقتصادي سيكون كارثة للاقتصاد العالمي. ولي العهد أيضا طمأن الصين بأن السعودية لا تأخذ موقفا مغايرا من مسألة تايوان، وأنها تتبنى سياسة الصين الرسمية بشأن “الصين الواحدة”.

الرسالة السادسة لروسيا، وهي أن التنسيق في إطار “أوبك+” بشأن أسعار النفط سيستمر، وأن المملكة لن تغير من علاقاتها معها بناء على الضغوطات الأميركية. “ما يحدد أسعار النفط في السوق العالمية”- قال ولي العهد- “هو الطلب والعرض”، وهذا يتطلب التنسيق مع الدول المنتجة له ومنها روسيا.

في الوقت نفسه، أوضح الأمير أن موقف المملكة من الحرب الروسية الأوكرانية يستند إلى ضرورة احترام جميع الأطراف للقانون الدولي، وهي رسالة لروسيا بأن المملكة لا تشاركها موقفها من أوكرانيا.

الرسالة السابعة للشعب اليمني، وهي أن المملكة كانت وستبقى الداعم الأكبر لهم، وأن طريق التسوية السياسية سيفتح الباب أمام إعادة إعمار اليمن الذي ستلعب فيه المملكة دورا حاسما إذا قبل الحوثيون بتوفير الضمانات الأمنية لحدود المملكة الجنوبية وبفتح الطريق أمام عملية سياسية تفضي إلى مشاركة جميع الفاعلين اليمنيين في السلطة السياسية تفضي إلى يمن مستقر ومزهر.

لتأكيد محورية سياسات المملكة الداخلية في كل توجهاتها الخارجية، اختار ولي العهد إطلاق رسائله من جزيرة سندالة الجميلة على البحر الأحمر، وهي واحدة من اثنتين وثلاثين جزيرة يجري تأهيلها لاستقبال السياح في إطار مشروع نيوم العملاق، وواحدة من خمس جزر سيتم افتتاحها رسميا العام القادم.

بهذه الرسائل الواضحة، أنهى ولي العهد السعودي التكهنات الإعلامية العديدة بشأن طبيعة وحيثيات المفاوضات الجارية مع الولايات المتحدة، موضحا فيها أن المعاهدة الدفاعية مع الولايات المتحدة هي مصلحة أميركية بقدر ما هي مصلحة سعودية، وأن أي معاهدة سلام مع إسرائيل مرتبطة بما يمكن لإدارة الرئيس بايدن أن تحققه من نتائج ترضي الفلسطينيين في إطار عملية سلام تنهي الصراع بينهم وبين الإسرائيليين، وأن المملكة ستمضي في طريق تعزيز وتطوير علاقاتها مع الصين والدول الأخرى بما يحقق مصالحها واحتياجاتها وتوازن علاقاتها الدولية.

الرئيس الأميركي كنيدي يقول: “رغم أنه قد يكون من الممتع أن ننعم بدفء التعافي… فإن الوقت المناسب لإصلاح السقف هو وقت سطوع الشمس”. رسالة محمد بن سلمان الأساسية واضحة وغير مشوشة، المملكة تنطلق بزخم كبير لتحقيق هذه التحولات الكبيرة والصعبة وإصلاح السقوف أثناء سطوع الشمس ولن تنتظر أحدا.

 

المصدر:المجلة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى